منظومة حقوق الإنسان الدولية
في تناغم مع جهود المجتمع الدولي، وما تضمنته نصوص الأحكام ذات صلة بالشؤون الصحية والحقوق المرتبطة بها التي أقرتها منظمة الأمم المتحدة، أكد "الميثاق العربي لحقوق الإنسان" في ديباجته على أحكام كل من "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" و "العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، ونص في المادة (39-1) منه على ضرورة "حصول المواطن مجانا على خدمات الرعاية الصحية الأساسية وعلى مرافق علاج الأمراض من دون أي نوع من أنواع التمييز"، مؤكدا في المادة (39-2-ب) منه على "العمل على مكافحة الأمراض وقائيا وعلاجيا" وفي المادة (39-2-ج) على "نشر الوعي والتثقيف الصحي"؛
وقد تبقى النصوص الوارد ذكرها أعلاه حبرا على ورق ويتعذر ترجمة مضامينها على أرض الواقع ما لم يتم ربطها بحق محوري وأساسي من حقوق الإنسان، ألا وهو الحق في التنمية؛ فقد دعا الميثاق العربي لحقوق الإنسان في المادة (37) منه الدول الأطراف إلى وضع "السياسات الإنمائية والتدابير اللازمة لضمان هذا الحق، وعليها السعي لتفعيل قيم التضامن والتعاون فيما بينها للقضاء على الفقر وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية"، كما أن "إعلان الحق في التنمية" المعتمد من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في 4 ديسمبر/كانون الأول 1986 نص في المادة (8) منه على أنه "ينبغي للدول أن تتخذ، على الصعيد الوطني، جميع التدابير اللازمة لإعمال الحق في التنمية ويجب أن تضمن، في جملة أمور، تكافؤ الفرص للجميع في إمكانية وصولهم إلى الموارد الأساسية والتعليم والخدمات الصحية والغذاء والإسكان والعمل والتوزيع العادل للدخل"، وهو التوجه الذي رسخته أهداف التنمية المستدامة؛ يظهر جليا مما تقدم أن النصوص المعتمدة دوليا على مستوى الأمم المتحدة، وإقليميا على مستوى جامعة الدول العربية، رسخت ثوابت لا محيد عنها في منظومة حقوق الإنسان الدولية والإقليمية، وتشكل هذه الثوابت نواة صلبة لحقوق الإنسان وهي: الحق في الحياة (الحق الأسمى) والحق في الصحة والتعليم (صنوان لا يفترقان)، والحق في التنمية (ضرورة حتمية). لكن هذه النصوص وما بها من مضامين، وإن كانت بمثابة مرجعيات وثوابت، إلا أنها تصبح على المحك أوقات الأزمات؛
وجدير بالذكر أن منظمة الأمم المتحدة خرجت حيز الوجود في 24 أكتوبر/تشرين الأول 1945 بميثاق تم الإعداد له والتوقيع عليه من قبل مندوبي (50) دولة في مؤتمر سان فرانسيسكو، كردة فعل قوية للمجتمع الدولي إزاء ما عانته الإنسانية جراء الحرب العالمية الثانية (1939-1945)؛ رسم ميثاق الأمم المتحدة، في ديباجته، الأهداف التي يصبو لها المنتظم الدولي، وتجلت أبرز معالمها في إنقاذ "الأجيال المقبلة من ويلات الحرب" والإيمان "بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره". كما رسخ مبدأ "التعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي"، حيث نصت المادة (55-ب) على أن تعمل الأمم المتحدة على "تيسير الحلول للمشاكل الدولية الاقتصادية والاجتماعية والصحية وما يتصل بها"؛ سعيا من المجتمع الدولي إلى تفصيل الحقوق الأساسية المشار إليها في ميثاق الأمم المتحدة، اعتمدت الجمعية العامة بتاريخ 10 ديسمبر/كانون الأول 1948 "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" والذي نصت المادة (25) منه على أن "لكل شخص حق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته، وخاصة على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية"، ثم اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد ذلك "العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" الذي دخل حيز النفاذ في 3 يناير/كانون الثاني 1976، ونصت المادة (12-ج) منه على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة من أجل "الوقاية من الأمراض الوبائية والمتوطنة والمهنية والأمراض الأخرى وعلاجها ومكافحتها"؛
تهديدات جائحة فيروس كورونا (كوفيد 19) لحقوق الإنسان
لعل الأزمة الناتجة عن جائحة فيروس كورونا (كوفيد 19) التي حلت بالإنسانية عام 2020 وضعت منظومة حقوق الإنسان الدولية والإقليمية على المحك، لا من حيث نصوصها المرجعية، ولكن من حيث فاعليتها. فنحن لسنا بصدد أزمة نصوص، بل بصدد أزمة بلورة النصوص إلى واقع معيش وإلى إجراءات ملموسة في ظرفية تقوقعت فيها الدول على نفسها، وباتت خلالها منظومة حقوق الإنسان الأممية والإقليمية بمرجعياتها وآلياتها أداة لتذكير الدول بالتزاماتها ولنشر تصريحات وبيانات بما يجب أن يكون وما يجب تفادي كينونته؛ فقد أكدت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان أن الجهود المبذولة للتصدي للفيروس لن تنجح "ما لم نعالج الأزمة بشكل شمولي، مع الحرص الشديد على حماية الأشخاص الأكثر ضعفا وإهمالا في المجتمع، على المستويين الطبي والاقتصادي"، واتخاذ إجراءات عاجلة تمنع فيروس كورونا (كوفيد 19) من "اجتياح أماكن الاحتجاز"؛
وفي افتتاحية مشتركة، اعتبر كل من مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين ومفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان أن فيروس كورونا (كوفيد 19) لا يختبر أنظمة الرعاية الصحية والاستجابة السريعة فحسب، بل يختبر الإنسانية ككل؛ وصرح المفوضان الساميان أن منع انتشار الفيروس "يتطلب الوصول إلى الجميع، وضمان الوصول العادل للعلاج. وأن يكون هذا الوصول متاحا لكل الأفراد". كما قاما بِحَث القادة السياسيين على كسب الثقة من خلال نشر معلومات شفافة وفي وقتها المناسب، وتمكين الناس من المشاركة في حماية الصحة العامة؛ وقد تضمنت كل البيانات والتصريحات الصادرة عن مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان وعن اللجان التعاهدية وأصحاب الولايات الدعوة إلى "عدم التمييز" لضمان عدم حرمان أي شخص من العلاج، وإلى "الوصول إلى المعلومات" بشكل شامل ودقيق وفي الوقت المناسب، وإلى التقيد بمبدأي "التناسب والضرورة" في إجراءات الحجر الصحي، وإلى تيسير "التعليم أو العمل عن بعد"، و"توفير فحص طبي مناسب للمحتجزين، والرعاية الطبية والعلاج عند الضرورة"؛
وفي بيان مشترك، قام (16) خبيرا مستقلا لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، ضمن ما يصطلح عليه بالإجراءات الخاصة، بحث الدول الأعضاء على عدم ملاحقة المدافعين عن حقوق الإنسان أو المعارضين، مؤكدين أنه "يجب أن تعتمد القيود المفروضة للتصدي للفيروس على أساس أهداف الصحة العامة وألا تستخدم لقمع المعارضة"؛ كما ورد في بيان لعدد من الخبراء في مجال حرية الإعلام، بمن فيهم "مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير"، أن "صحة الإنسان لا تعتمد على الرعاية الصحية المتوفرة فحسب، بل على الوصول إلى معلومات دقيقة بشأن طبيعة التهديدات، وبشأن وسائل حماية الفرد وأسرته ومجتمعه"، وتحقيقا لهذه الغاية، حثث مجموعة الخبراء الحكومات على توفير تدفق حر للمعلومات، بما في ذلك توفير معلومات صحيحة وعدم تقييد الوصول إلى الانترنت؛ وقد حثث "مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بالحق في السكن اللائق" الدول التي أقرت تدابير العزل المنزلي إلى اعتماد تدابير محددة خاصة بمن لا مأوى لهم أو يعيشون في ظروف صعبة، سعيا نحو ضمان "الحق في السكن والحماية من الوباء للجميع"؛ وأكد "مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967" أن على إسرائيل "واجب قانوني" لضمان حصول الفلسطينيين على الخدمات الصحية الأساسية؛ وصرح "مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالحق في الغذاء" أنه "يجب أن تصل المساعدة الغذائية إلى السكان في مناطق النزاع دون تمييز وبأقصى الموارد المتاحة"؛ وأكدت "مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة" بأنهم يشعرون وكأنهم "مهملون ومتروكون، وقد تكون إجراءات الاحتواء، على غرار التباعد الاجتماعي والعزل الذاتي، مستحيلة التنفيذ بالنسبة إلى من يعتمد على دعم الآخرين عند تناول الطعام وارتداء الملابس والاستحمام"؛ وأصدر "الخبير المستقل المعني بآثار الديون الخارجية على حقوق الإنسان" بيانا أشار فيه إلى أن "الحوافز المالية وحزم الحماية الاجتماعية التي تستهدف بشكل مباشر من هم أقل قدرة على التعامل مع الأزمة، ضرورية للتخفيف من عواقب الوباء المدمرة"، مقترحا تأمين "الخدمات العامة، مجانا، لمن لا يستطيع تحمل كلفتها، وأن تعلق خدمة الديون للأفراد غير القادرين على مواجهة أزمة الصحة العامة"، ومشيرا إلى أن العاملين لحسابهم الخاص، وغيرهم من الذين لا يستطيعون العمل من المنزل، يحتاجون إلى حوافز اقتصادية ومالية للبقاء في المنزل، وإلا فإنهم سيذهبون إلى العمل ويعرضون صحة عائلاتهم والمجتمع للخطر؛
ودعا "مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالمواد والنفايات الخطرة" الدول والشركات إلى تكثيف جهودها على وجه السرعة لضمان حصول العاملين في مجال الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم على معدات الحماية الكافية؛
كما أكدت "مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بمسألة العنف ضد المرأة" أن التدابير التقييدية المعتمدة في جميع أنحاء العالم لمكافحة جائحة كورونا (كوفيد 19) تزيد من خطر العنف المنزلي، داعية الحكومات إلى دعم حقوق النساء والخروج بتدابير عاجلة لضحايا هذا العنف؛ ومن جهتها، أكدت "خبيرة الأمم المتحدة المستقلة المعنية بتمتع كبار السن بجميع حقوق الإنسان" أن "التقارير بشأن كبار السن المتروكين في دور الرعاية أو عن الجثث التي تم العثور عليها مثيرة للقلق وغير مقبولة أبدا، ومن واجبنا جميعا أن نتضامن ونحمي كبار السن من مثل هذا الضرر"، مؤكدة أن الإقصاء الاجتماعي يتفاقم بالتباعد الاجتماعي؛
هذا، ويظهر جليا مما تقدم أن مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان يعكف منذ بداية الأزمة على متابعة أوضاع الفئات الأكثر تضررا وعرضة للعدوى (المحتجزون، المهاجرون، ذوي الإعاقة، كبار السن ...)، مع الدعوة إلى سرعة الإفراج عن السجناء السياسيين والمعارضين والسجناء المرضى وأصحاب الجرائم البسيطة للحد من انتشار الفيروس في السجون وأماكن الاعتقال؛ كما شرع مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان في متابعة تأثير جائحة فيروس كورونا (كوفيد 19) على مختلف قضايا حقوق الإنسان والتي تعتبر جلها مقاصد لأهداف التنمية المستدامة، بدءا بتقييم الحق في الحصول على المياه في المناطق العشوائية في ظل أن غسل اليدين يمثل أحد أهم أدوات الوقاية من الفيروس ومكافحته؛
يقتصر - في الوقت الراهن - تعامل كل من مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان واللجان التعاهدية وأصحاب الولايات مع الأزمة الناجمة عن جائحة كورونا (كوفيد 19) على الدعوة والمطالبة، وهو أقصى ما يمكن إنجازه في منظومة تعاني من أزمة مالية ونقص في الموارد البشرية المتخصصة، تاركا مهمة التنفيذ ومواجهة الأزمة للحكومات؛ وتظهر جليا ضرورة إعادة ترتيب أولويات عمل منظومة حقوق الإنسان الأممية من خلال التركيز بشكل أكبر على كل من الحق في الصحة، والحق في التعليم، والحق في التنمية، لا سيما وقد بدأ الحديث عن تقصير كبير لكل الحكومات في القدرة على التنبؤ بالمخاطر الصحية الجرثومية، وعدم الجاهزية لمواجهة الأوبئة واسعة الانتشار، وضعف التربية على الرعاية والوقاية الصحية، وتردد المنظمات الدولية في دق ناقوس الخطر بشكل فوري وحاسم؛
المنظومة العربية لحقوق الإنسان
أما على مستوى منظومة حقوق الإنسان العربية، فقد حلت الجائحة وجامعة الدول العربية تخلد مرور (12) سنة على دخول الميثاق العربي لحقوق الإنسان حيز النفاذ والذي انضمت إليه إلى تاريخه (16) دولة عضو في جامعة الدول العربية، وفي تفاعل مع هذه الظرفية الدقيقة، أشاد رئيس لجنة حقوق الإنسان العربية (لجنة الميثاق) بالتدابير التي اتخذتها الدول العربية لمنع انتشار فيروس كورونا (كوفيد 19)، حماية لحق مواطنيها والمقيمين على أراضيها في الحياة والصحة، كما حث رئيس اللجنة الدول العربية على ضرورة توجيه سياساتها ومواردها للتخفيف من التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لتدابير منع انتشار الفيروس على حياة مواطنيها والمقيمين على أراضيها، مع الـتأكيد على أهمية التزام الدول العربية بأحكام الميثاق العربي لحقوق الإنسان بخصوص إعلان حالات الطوارئ العامة، مناشدا بوجود استراتيجية دولية وإقليمية ووطنية للاستجابة للتحديات والأزمات العالمية، تحترم حقوق الإنسان وتحميها وتساهم في إعمالها؛ ومما لا شك فيه أن تعزيز إمكانيات لجنة حقوق الإنسان العربية (لجنة الميثاق) أصبح ضرورة لتمكينها من التفاعل بشكل استباقي وأكثر فاعلية مع الأزمات؛ وقد يتأتى دعم لجنة حقوق الإنسان العربية من خلال إنشاء صندوق مستقل خاص باللجنة، وتعزيز أمانتها الفنية، وتكليف أحد أعضائها بمهام "أمين سر اللجنة"، وإرساء مبدأ التخصص بين أعضاء اللجنة ليصبح كل منهم مختصا بحزمة معينة من الحقوق، لتصبح اللجنة بمثابة بيت حكمة عربي في مجال حقوق الإنسان ومرجعا في أوقات الأزمات؛ أما على مستوى اللجنة العربية الدائمة لحقوق الإنسان ولجنة حقوق الإنسان بالبرلمان العربي، وكما ورد عند الحديث عن منظومة حقوق الإنسان الأممية، فيتوجب إعادة ترتيب الأوليات والتركيز على ما من شأنه ضمان الحق في الحياة والصحة والتعليم والتنمية، وتوسيع هامش تحرك هذه اللجان إقليميا ودوليا؛
كما يجب تعزيز الاهتمام عربيا بالتربية على حقوق الإنسان وبثقافة حقوق الإنسان سعيا نحو تعامل أفضل للأفراد والمجتمعات مع ما يملى عليهم من قرارات تتضمن حقوقا وواجبات، لا سيما في أوقات الأزمات، علاوة على ضرورة الاهتمام بالصلات القائمة بين حقوق الإنسان وبعض المجالات الأساسية كالرعاية الصحية (حق المواطن في نظام صحي مناسب يراعي أحواله الاقتصادية)، والتعليم (مجاني ويراعي احتياجات المجتمع)، والتغيرات المناخية وتأثيراتها على جل مناحي الحياة؛ ويجب النظر في سن خطط احترازية إقليمية فعالة تتضمن ماهية حقوق الإنسان أوقات الكوارث والأزمات، وما يتم تقييده من حقوق وحريات لدواعي الأزمة، مع بيان ما قد يكون لذلك من تداعيات على الحقوق الاقتصادية وسبل التعامل مع هذا الوضع؛
وحيث أن هنالك تخوفات من تداعيات ما بعد جائحة كورونا (كوفيد 19) على المنطقة العربية، كازدياد البطالة، وتفاقم ديون معظم الدول العربية، واشتداد الفقر، فقد يكون مناسبا النظر في إنشاء "صندوق عربي للتكافل الاجتماعي" كآلية إقليمية للتضامن الاجتماعي يشارك في تمويله الدول المقتدرة والقطاع الخاص، ويوجه بالأساس لتشييد مشاريع تنموية في الدول الأكثر تضررا من الجائحة، لدعم قدرات الأفراد وإعمال مبدأ الحق في التنمية على المستوى الإقليمي.